عمر رزوق
بيلساني مجند


- إنضم
- Nov 12, 2008
- المشاركات
- 1,395
- مستوى التفاعل
- 45


ساعة انتظار
يلاحق الأطياف ويطردها من أمام عينيه , ناء رأسه بالقلق الذي اخترقه واستوطنه ,
فحمله بين راحتيه مطوّحا نظراته إلى اللاحدود في مناطق اللامدى . لم يعد يدري أتلك دوائر بيضاء التي تتراقص أمامه فتضيق وتختفي , لم يعد يستطيع التحقق من الأشياء , أظنه وعن غير قصد استطاع السير على ذاك الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم . خيالها يطارده , طيفها يجالسه , تلك التي احتلت قلبه وشغافه , يشرد ويسرح يقلّب بصره بصور تتدافعه وتدخل ذهنه بإلحاح مستميت , ويتحرك الطيف فيسترجع حرارة مشاعره ودفء إحساسه , مستحضرا تفاصيل أول يوم عرفها , يوم أضاءت النور بوجهه والأمل بقلبه والدفء بجسمه , فتهللت أساريره بانعكاسات الفرح , حورية , تجمع الجمال في روحها ونفسها في جسمها في وجهها في عينيها في بريق دمعة على جفنيها حورية الليلة بعد الألف من ليالي شهرزاد , وعلى ضفاف عيونها رموش كعصافير الحياة ترفرف , وبريق عيناها كنجمة خجلى , والأمل نور يشعّ من وجهها , تقطعت كل الأوتار الوصفية تحت أناملها , فهناك بين أناملها حلم يرسم سنابل ربيعية مزهرة مليئة بالفرح والسعادة وورود ألوانها الأماني .
أينها الآن لعلها تستطيع أن ترى ما آل إليه حاله , فالليلة عاصفة ماطرة , برق يضئ قتوم الليل , قصف رعد يدوّي فوق الآفاق ورياح تعصف بكل ما تستطيع النيل منه . وفجأة تهدأ العاصفة , ويخيّم على المكان هدوء المقابر , تجفّ السماء من رذاذ ما زال متعلقا بأطراف غيوم تفرقت , فراغ أليم يمتص والظلام الحزين , حبة قلبه , طيف حبيبته , وتدخل في متاهات صمت طويل لا ينتهي وتغرق أوراقه الزرقاء بدموعه , تموت عليها الحروف في مهد لحظة متكسرة متحطمة متهدمة , ولا يبقى منه إلا آهات عميقة مؤلمة تمزق صدره وقلبه . يراها طيفا , أطلال جسم ويرى نفسه أطلال روح . ولكن الخفقات والنبضات ما زالت كما كانت مضطربة في الصدر , نسيج قصة غرام أبدي تعيش وتحيا في كيانه , اختزل فيها كل عمره , فتكسرت الأحلام ما بين كلومه المفتوحة وأرصفة حياة عتيقة , وكان انسحاب الطيف طعنة نجلاء لا يستطيع بعدها أن يجد ما تبقى من سنوات عمره بل أيامها التي دثرها الرماد .
تعصف الرياح بما تبقّى من أجنحته , وتقف عاجزة عن حمل أشلائه وأشيائه الباقية , بينما تجر أقدامه صور وقائع ليال مدلهمة , ترزح تحت الآهات والأنات التي مزّقها الضياع . تفرقت غيوم غيث التمنيات وجفّت ينابيع الأمل ونضبت عيون الأمنيات وحينها ارتحلت وهجرت كل ركائب الشوق نحو سراب خاذل .
لكنه يحبها يعشقها يهواها , فما زال منتظرا عودتها مع كل رمشة عين , أن يأتيه صوت الموسيقى من مكان ما , عبر صدى كلمات همس طيفها بها في أذنه ثم تاهت , ثم عادت إلى الفؤاد , سالكة الطريق الوحيد المتوفر , عبر أحاسيسه ومشاعره ونبضات قلبه , لم يعد يشعر بالوقت ولا بالزمن فالكل عنده سيّان , ورقة زرقاء عليها عنوان واحد , غرامه الذي انغمس في الفؤاد , فتوقف عن الاهتمام , فما عاد يبالي بهزائم قد تصفعه ومصائب قد تصعقه , فإن الزمان قد أقرّ واعترف , وقال له بأن عشقها وغرامها هو الحقيقة الوحيدة والثبات المتفرد الذي يتكئ عليها عمره وما تبقّى له من حياة , الزمن لا يرجع والوقت لا يتقهقر والماضي لا يعود , وتترسب الذكرى والأشواق والحنين في ما غار من الأعماق .
لن يكل ولن يمل الانتظار , وإن اشتعلت جنبات رأسه شيبا , سيبقى ينتظر سيظل ينتظر تلك التي سكنت داخل قلبه وكانت أضلاعه سُقُفا تحميها .
عمر رزوق