The Hero
الأســــــــــــــطورة


- إنضم
- Jun 29, 2008
- المشاركات
- 20,104
- مستوى التفاعل
- 69
- المطرح
- في ضحكة عيون حبيبي
أرض البرتقال الحزين , مجموعة قصص قصيرة لغسان كنفاني.
أبعد من الحدود
صعد الرجل الهام الدرجات القليلة إلى بيته , فتح له الباب , القى محفظته الجلدية فوق الطاولة , قبل زوجته , نظر الى طفله النائم في الحرير الأزرق , فك رباط عنقه , ساعده الخادم على خلع حذائه , اخذت زوجته المعطف , علقته على المشجب , فرك يديه مستمتعاً بالدفء ..
أتريد أن تتناول عشاءك الآن؟
أوه نعم , أنا جائع جداً ...
استدارت زوجته ذاهبة الى خارج الغرفة , رغرغ الصغير في حريره الأزرق , أصوات الصحون تأتي اليه مخدرة من وراء باب غرفة الطعام ,
ثم صوت زوجته:
هل مسكتموه؟
من ؟
الشاب الذي قفز من النافذة أثناء التحقيق . .
ليس بعد ولكن اين يريد أن يفر؟ سيكون مآله الينا بين ساعة وأخرى ..
ماذا كانت جريمته بالضبط ؟
من اين لي ان ادري؟ لقد طلب مقابلتي ثم هرب ...
قام عن الكرسي الوثير, انتعل شحاطته ذات الفرو، اجتاز الباب الى غرفة الطعام ، جلس في كرسيه المفضل ، قرب وجهه من صحن الحساء واستمتع بالبخار المتصاعد منه . . .
هذا الحساء ساخن جداً, سيحرقي. .
عليك ان تنتظر برهة . .
انا مرهق جداً اليوم .
تراخى في كرسيه وأحس بثقل يتمدد في جفنيه, سمع صوت شباك ينغلق بعنف, زوجته تنسى دائماً شباك الحمام مفتوحاً فتلعب به الريح . . أحس برغبة جامحة في النوم . . كيف استطاع ذلك الشقي ان يثب من الشباك دون ان يؤذي نفسه ؟ كلهم شياطين مجرمون . .
-(( سوف القي خطاباً امامك ))
سمع هذه الجملة بوضوح فحاول ان يرفع رأسه ، الا انه كان مستمتعاً بالدفء ، والنعاس، سأل نفسه : تراه من يكون ؟
-(( الشاب الذي هرب من النافذة , عاد من النافذة يا سيدي!))
ومرة اخرى لم يشأ أن يرفع رأسه رغم أنه أحس بشيء من الرعب . . . كان بخار الحساء ما زال يتصاعد فيحمل الى وجهه نكهة رطوبة دافئة ، قال لنفسه (( لاشك أنهم امسكوا ذلك الشاب . . أنا أفكر به الآن لأن حاستي السادسة نامية, انا أثق بها )). .
-((لن تقاطعني يا سيدي, أليس كذلك؟ أريد أن ألقي خطاباً ))
-(( لا لن اقاطعك ))
لم يعد بوسعه ، الآن ، ان يفتح عينيه ورغم ذلك فهو لم ينم بعد. . انها اللحظات القليلة العائمة التي تسبق النوم مباشرة, هكذا فكر، انه يعرف جيداً هذه اللحظات, ويمتصها, نصف واع, حتى الثمالة . .
-(( إسمح لي يا سيدي أن ارتجف امامك ريثما يبرد الحساء, انت لن تمنعي من الارتجاف , أليس كذلك ؟ انه حق ما زال متوفراً لي حتى الأن . . شيء مؤسف ولكنه حقيقة واقعة . . ان رجالك لا يستطيعون ان يمنعوني من ذلك , اعتقد أنهم يرغبون في ذلك . . أليس الارتجاف حركة ؟ ولكن كيف يتعين عليهم أن يفعلوا؟ ايعطونني معطفاً؟ كيف ؟ يعطون الخنزير معطفاً؟ ))
هز رأسه في محاولة عنيفة لابعاد الصوت الحاد إلا أذ الحروف كانت تتكلب في صدغية كالعلق . .
-(( لا يا سيدي , لا تحاول آن تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف الذي يحتوي على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي . . تريد ان تعرف شيئاً عني؟ هل يهمك ذلك ؟ احسب على أصابعلث إذن : لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد ، أبي يقيم في قطر آخر وليس بوسعي الالتحاق به ولا رؤيته ولا زيارته , لي اخ ، يا سيدي , يتعلم الذل في مدارس الوكالة ، لي أخت تزوجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي , لي أخ آخر, يا سيدي , في مكان ما لم يتيسر لي أن أهتدي اليه بعد . . تريد آن تعرف جريمتي ؟ هل يهمك حقأ أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي؟ لقد سكبت دون أن أعي , كل محتويات وعاء الحليب فوق رأس الموظف وقلت له انني لا اريد بيع وطني ... في لحظة جنون أم لحظة عقل ، لا أدري . . . لقد وضعوني في زنزانة سحيقة العمق لكي أقول انها لحظة جنون . . ولكنني، في تلك الزنزانة ، تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها. . .
هذا صوت أسناني تصطك من شدة البرد يا سيدي ، لا تخف انا لا أحمل سلاحاً اذا كنت تعتقد أن اسناني ليست سلاحاً , إن ساقي عاريتان ممزقتان لانني قفزت من نافذتك , وقد خطرت لبالي فكرة صغيرة وأنا أمعن في الركض مبتعداً عن غرفتك وحرسك وهي أن هذا الدم الذي سال من ساقي قد تفجر من جروح هي أول جروحي , وان ذلك , للعجب ، لا يحدث على الحدود . ولا أريد أن أخفي عنك شيئاً، يا سيدي . . لقد بعث ذلك في شيئاً يشبه الخجل ولكنه كان خجلاً حزيناً بائساً ما لبث أن صار دمعاً . . ويبدو أن ذلك الخجل هو الذي دفعي لأعود اليك من النافذة ، أم تراني عدت لأن كلمتك الأخيرة ، التي سمعتها وانا أثب من النافذة وكانت آخر ما سمعت منك ، ما تزال تنخر في رأسي كالمثقب : كلمة ناشفة انهمرت ورائي وانا أقفز : (( الخنزير ... امسكوه )) !
يا سيدي ، أنا إذن خنزير حقير ... أتسمح لي أن أكونه ؟ أنا لست أشعر ذلك إذا أردت الصدق . . ولكن لو قلت الصدق هذا ، بصوت أعلى ، إذن لزجوا بي في السجن . واذا أغلقوا وراء ظهري المزلاج فمن يستطيع ان يفتحه ؟ أنت ؟ ولا حتى من هو أعلى منك قيمة ومركزاً ...! أتعرف لماذا يا سيدي؟ لأني ، في الواقع ، لست إلا تجارة من نوع نادر،
فأنت ستسأل نفسك إذا قدر لك أن تسمع بالخبر : (( . . . وماذا سأستفيد من إطلاقه ؟)) والجواب بكل بساطة : (( لا شيء! )) فأنا لست صوتاً انتخابياً, وانا لست مواطناً, باي شكل من الأشكال , وأنا لست منحدراً من صلب دولة تسال بين الفينة والأخرى عن اخباررعاياها. . وأنا عنوع من حق الاحتجاج ء ومن حق الصراخ فماذا ستربح ؟ لا شيء . . وماذا ستخسرإذا بقيت انا وراء المزلاج ؟ لا شيء أيضاً! إذن لماذا التفكير الطويل ؟ ((خذ هذه الاوراق يا ولد ولا تزعجي بمثلها مرة اخرى! )) أرأيت ؟ مشكلة لا أبسط ولا أسهل !
لقد فكرت في الامر مطولاً في المدة الاخيرة يا سيدي . . أنت تعرف ، لا بد أن الواحد منا ما زال يفكر بين الفينة والاخرى . . لقد كنت ماشياً في الشارع وفجأة سقطت الفكرة في رآسي كلوح زجاج كبيرما لبث أن تكسر وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل . . قلت لنفسي : (( أوف . . ثم ماذا؟)) وأنت ترى, إنه مجرد سؤال صغير يمكن للمرء ان يطرحه ولو بعد خمس عشرة سنة . . ولكن العجيب هذه المرة أن السؤال كان صلباً وناشفاً وأكاد أقول نهائياً . . اذ انه , فور أن سقط في رأسي , انفتح خندق مظلم طويل بلا نهاية . . .
وقلت لنفسي : (( لا بد ان أكون موجوداً رغم كل شيء . . لقد حاولوا ان يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن . . وبذلوا , يشهد الله , جهداً عجيباً من أجل ذلك . . ولكنني ما أزال موجوداً رغم كل شيء . . )) الا أن السؤال كان ما يزال يعوي : (( ثم ماذا؟ )) هذا النوع من الاسئلة يا سيدي عجيب للغاية , ذلك انه اذا ما أتى لن يكون بوسعه ان يبرح قبل أن يروي ظمأه تماماً!
نعم , ثم ماذا؟ دعني اقول همساً : يبدو ان ليس ثمة (( ثم ماذا )) ابداً .
دعني اقول ذلك (( ثم قولوا عني انني يائس جبان هارب . . قولوا عني حتى إنني خائن ! ليس بوسعي ان اكتم الجواب اكثر . . ان الحقيقة يا سيدي مروعة, وهي تملؤني بغزارة حتى لأحس بأني , ذات يوم ، قد أنفجر من فرط ما عبأتني . . أتسع يا سيدي؟ ليس ثمة ((ثم ماذا)) على الاطلاق . . وتبدو لي حياتي ، حياتنا كلنا ، خطاً مستقيماً يير بهدوء وذلة الن جانب خط قضيتي . . ولكن الخطين متوازيان , ولن يلتقيا
يا سيدي !
إن كنت أنا قد جمعت طوال فترة قاسية شجاعة خارقة لأقرر هذه الحقيقة , فان الشرف كله ليس لي , انا لي شرف القول فقط وانتم تحتفظون بكل شرف التأليف. . ألست ترى أنكم انتم الذين اعددتموني ساعة اثر ساعة ويوماً اثر يوم وعاماً اثر عام لهذه النتيجة ؟
لقد حاولتم تذويبي يا سيدي ! حاولتم ذلك بجهد متواصل لا يكل ولا يمل يا سيدي . هل اكون مغروراً فأقول بأنكم لم تفلحوا؟ بلى ! افلحتم الى حد بعيد وخارق ، الست ترى انكم استطعتم نقلي ، بقدرة قادرة , من انسان الى حالة ؟ انا اذن حالة . . لست اعلى من ذلك قط ، وقد اكون ادنى . . ولانني حالة , لاننا حالة ، فنحن نستوي بشكل مذهل ! انه عمل رائع يا سيدي , عمل رائع جداً رغم انه احتاج الى فترة طويلة ، ولكن يا سيدي ، ان تذويب مليون انسان معاً , ثم جعلهم شيئاً متوحداً ليس عملاً سهلاً، ولذلك ا عتقد انك تسمح له ان احتاج ذلك الوقت الطويل . . لقد افقدتم اولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة . . ولستم في حاجة , الآن ، الى تمييز وتصنيف ، انتم الآن امام حالة . . فاذا خطر لكم ان تسموها لصوصية , فانهم لصوص . . خيانة ؟ كلهم ، اذن ، خونة ! فلماذا الارهاق والتعب والنظرات البشرية المعقدة ؟
سيدي . . لا تتعجل على فهمي البطيء, انا اريد ان اقول ايضاً انهم من ناحية اخرى، (( حالة تجارية )) . . انهم ، اولاً، قيمة سياحية ، فكل زائر يجب ان يذهب الى المخيمات , وعلى اللاجئين ان يقفوا بالصف وان يطلوا وجوههم بكل الاسى الممكن , زيادة عن الاصل , فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور, ويحزن قليلاً. . ثم يذهب ان بلده ويقول : (( زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل ان ينقرضوا )) ثم انهم , ثانياً. قيمة زعامية , فهم مادة الخطابات الوطنية واللفتات الانسانية والمزايدات الشعبية . . وانت ترى, يا سيدي, لقد اصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يميناً ويساراً!
سيدي ، ليس هناك اي ((ثم)) ! هذه حقيقة مروعة , ولكنها حقيقة على اية حال . . لقد تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم . انا , كفرد, مجرد خنزير، وانا , كجماعة ، حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية . . لقد فكرت طويلاً قبل ان اصرح بهذا الاكتشاف ، وانا اعرف بأن المنابر ستمتلىء بمن يقول : هذا خائن جبان متخاذل هارب ، لا بأس , لن ينالني العار اكثر مما نالني , وبعد خمسة عشر عاماً لا بأس ان تكونوا كلكم زعماء الاخلاص ورجال المعركة والابطال الصناديد الذين لا ييأسون ولا يهربون . . .
سيدي! إن مؤسستنا تقدم خدمات اخرى لا يحصيها العد .....
نحن مثلاً اكثر جماعة ملائمة من اجل ان تكون مادة درس للبقية ... الاحوال السياسية مستعصية صعبة؟ اذن , اضرب المخيمات! اسجن بعض اللاجئين ، بل كلهم اذ استطعت ! اعط مواطنيك درساً قاسياً دون ان تؤذيهم .. ولماذا تؤذيهم اذا كان لديك جماعة مخصصة تستطيع ان تجري تجاربك في ساحاتها؟
اريد ان الفت نظرك يا سيدي الى امور كثيرة اخرى, انت تستطيع ان تؤكد ولاء مواطنيك عن طريق الادعاء بأن المتذمرين انما هم بعض الفلسطينيين , وإذا فشل مشروع من مشاريعك فقل ان الفلسطييين سبب ذلك الفشل ، كيف ؟ انه امر لا يحتاج الى تفكر طويل ، قل انهم مروا من هناك مثلاً. . اوانهم رغبوا في المشاركة . . او اي شيء آخر، إذ ما من أحد سينبري لمحاسبتك . . ولماذا ينبري؟ من يملك ، بعد خمسة عشر عاماً، جرأة التطويح بنفسه في القضاء دون هدف ؟
يا سيدي, انت ترى، نحن رحمة احياناً. . انت تستطيع ان تشنق واحداً منا فتربي بجسده الميت الفاً من الناس دون ان تحمل هماً او خوفاً اوتأنيب الضمير. . الا اننا يا سيدي, نقمة في كثيرمن الاحيان ، نحن لصوص, نحن خونة ، نحن بعنا ارضنا للعدو. . ونحن طماعون ، طماعون نريد ان نمتص كل شيء هنا، حتى التراب ..
هذا هو الدور الذي رسم لنا . . وعلينا ان نقوم به شئنا ام ابينا . .
ولكن ، يا سيدي ، هنالك مشكلة بسيطة تؤرقي واشعر ان لا بد لي من قولها . . ان كثيراً من الناس ، اذا ما شعر انه يشغل حيزاً في المكان ,يبدأ بالتساؤل ، (( ثم ماذا ؟)) وابشع ما في الامر انه لو اكتشف بأن ليس له حق ((ثم)) ابداً . . يصاب بشيء يشبه الجنون , فيقول لنفسه بصوت منخفض : : (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها)) ثم ، مع الايام يبدأ بالصراخ : (( اية حياة هذه ! الموت افضل منها)) والصراخ ، يا سيدي عدوى ، فاذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها )) ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيراً فلا بد ان يفكرو بأمر آخر .
سيدي ..
اخشى ان يكون حساؤك قد برد، فاسمح لي ان انصرف ! )) .
أبعد من الحدود
صعد الرجل الهام الدرجات القليلة إلى بيته , فتح له الباب , القى محفظته الجلدية فوق الطاولة , قبل زوجته , نظر الى طفله النائم في الحرير الأزرق , فك رباط عنقه , ساعده الخادم على خلع حذائه , اخذت زوجته المعطف , علقته على المشجب , فرك يديه مستمتعاً بالدفء ..
أتريد أن تتناول عشاءك الآن؟
أوه نعم , أنا جائع جداً ...
استدارت زوجته ذاهبة الى خارج الغرفة , رغرغ الصغير في حريره الأزرق , أصوات الصحون تأتي اليه مخدرة من وراء باب غرفة الطعام ,
ثم صوت زوجته:
هل مسكتموه؟
من ؟
الشاب الذي قفز من النافذة أثناء التحقيق . .
ليس بعد ولكن اين يريد أن يفر؟ سيكون مآله الينا بين ساعة وأخرى ..
ماذا كانت جريمته بالضبط ؟
من اين لي ان ادري؟ لقد طلب مقابلتي ثم هرب ...
قام عن الكرسي الوثير, انتعل شحاطته ذات الفرو، اجتاز الباب الى غرفة الطعام ، جلس في كرسيه المفضل ، قرب وجهه من صحن الحساء واستمتع بالبخار المتصاعد منه . . .
هذا الحساء ساخن جداً, سيحرقي. .
عليك ان تنتظر برهة . .
انا مرهق جداً اليوم .
تراخى في كرسيه وأحس بثقل يتمدد في جفنيه, سمع صوت شباك ينغلق بعنف, زوجته تنسى دائماً شباك الحمام مفتوحاً فتلعب به الريح . . أحس برغبة جامحة في النوم . . كيف استطاع ذلك الشقي ان يثب من الشباك دون ان يؤذي نفسه ؟ كلهم شياطين مجرمون . .
-(( سوف القي خطاباً امامك ))
سمع هذه الجملة بوضوح فحاول ان يرفع رأسه ، الا انه كان مستمتعاً بالدفء ، والنعاس، سأل نفسه : تراه من يكون ؟
-(( الشاب الذي هرب من النافذة , عاد من النافذة يا سيدي!))
ومرة اخرى لم يشأ أن يرفع رأسه رغم أنه أحس بشيء من الرعب . . . كان بخار الحساء ما زال يتصاعد فيحمل الى وجهه نكهة رطوبة دافئة ، قال لنفسه (( لاشك أنهم امسكوا ذلك الشاب . . أنا أفكر به الآن لأن حاستي السادسة نامية, انا أثق بها )). .
-((لن تقاطعني يا سيدي, أليس كذلك؟ أريد أن ألقي خطاباً ))
-(( لا لن اقاطعك ))
لم يعد بوسعه ، الآن ، ان يفتح عينيه ورغم ذلك فهو لم ينم بعد. . انها اللحظات القليلة العائمة التي تسبق النوم مباشرة, هكذا فكر، انه يعرف جيداً هذه اللحظات, ويمتصها, نصف واع, حتى الثمالة . .
-(( إسمح لي يا سيدي أن ارتجف امامك ريثما يبرد الحساء, انت لن تمنعي من الارتجاف , أليس كذلك ؟ انه حق ما زال متوفراً لي حتى الأن . . شيء مؤسف ولكنه حقيقة واقعة . . ان رجالك لا يستطيعون ان يمنعوني من ذلك , اعتقد أنهم يرغبون في ذلك . . أليس الارتجاف حركة ؟ ولكن كيف يتعين عليهم أن يفعلوا؟ ايعطونني معطفاً؟ كيف ؟ يعطون الخنزير معطفاً؟ ))
هز رأسه في محاولة عنيفة لابعاد الصوت الحاد إلا أذ الحروف كانت تتكلب في صدغية كالعلق . .
-(( لا يا سيدي , لا تحاول آن تستدعي كاتبك ليحمل لك الملف الذي يحتوي على كل التفاصيل الهامة وغير الهامة لحياتي . . تريد ان تعرف شيئاً عني؟ هل يهمك ذلك ؟ احسب على أصابعلث إذن : لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد ، أبي يقيم في قطر آخر وليس بوسعي الالتحاق به ولا رؤيته ولا زيارته , لي اخ ، يا سيدي , يتعلم الذل في مدارس الوكالة ، لي أخت تزوجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي , لي أخ آخر, يا سيدي , في مكان ما لم يتيسر لي أن أهتدي اليه بعد . . تريد آن تعرف جريمتي ؟ هل يهمك حقأ أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي؟ لقد سكبت دون أن أعي , كل محتويات وعاء الحليب فوق رأس الموظف وقلت له انني لا اريد بيع وطني ... في لحظة جنون أم لحظة عقل ، لا أدري . . . لقد وضعوني في زنزانة سحيقة العمق لكي أقول انها لحظة جنون . . ولكنني، في تلك الزنزانة ، تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها. . .
هذا صوت أسناني تصطك من شدة البرد يا سيدي ، لا تخف انا لا أحمل سلاحاً اذا كنت تعتقد أن اسناني ليست سلاحاً , إن ساقي عاريتان ممزقتان لانني قفزت من نافذتك , وقد خطرت لبالي فكرة صغيرة وأنا أمعن في الركض مبتعداً عن غرفتك وحرسك وهي أن هذا الدم الذي سال من ساقي قد تفجر من جروح هي أول جروحي , وان ذلك , للعجب ، لا يحدث على الحدود . ولا أريد أن أخفي عنك شيئاً، يا سيدي . . لقد بعث ذلك في شيئاً يشبه الخجل ولكنه كان خجلاً حزيناً بائساً ما لبث أن صار دمعاً . . ويبدو أن ذلك الخجل هو الذي دفعي لأعود اليك من النافذة ، أم تراني عدت لأن كلمتك الأخيرة ، التي سمعتها وانا أثب من النافذة وكانت آخر ما سمعت منك ، ما تزال تنخر في رأسي كالمثقب : كلمة ناشفة انهمرت ورائي وانا أقفز : (( الخنزير ... امسكوه )) !
يا سيدي ، أنا إذن خنزير حقير ... أتسمح لي أن أكونه ؟ أنا لست أشعر ذلك إذا أردت الصدق . . ولكن لو قلت الصدق هذا ، بصوت أعلى ، إذن لزجوا بي في السجن . واذا أغلقوا وراء ظهري المزلاج فمن يستطيع ان يفتحه ؟ أنت ؟ ولا حتى من هو أعلى منك قيمة ومركزاً ...! أتعرف لماذا يا سيدي؟ لأني ، في الواقع ، لست إلا تجارة من نوع نادر،
فأنت ستسأل نفسك إذا قدر لك أن تسمع بالخبر : (( . . . وماذا سأستفيد من إطلاقه ؟)) والجواب بكل بساطة : (( لا شيء! )) فأنا لست صوتاً انتخابياً, وانا لست مواطناً, باي شكل من الأشكال , وأنا لست منحدراً من صلب دولة تسال بين الفينة والأخرى عن اخباررعاياها. . وأنا عنوع من حق الاحتجاج ء ومن حق الصراخ فماذا ستربح ؟ لا شيء . . وماذا ستخسرإذا بقيت انا وراء المزلاج ؟ لا شيء أيضاً! إذن لماذا التفكير الطويل ؟ ((خذ هذه الاوراق يا ولد ولا تزعجي بمثلها مرة اخرى! )) أرأيت ؟ مشكلة لا أبسط ولا أسهل !
لقد فكرت في الامر مطولاً في المدة الاخيرة يا سيدي . . أنت تعرف ، لا بد أن الواحد منا ما زال يفكر بين الفينة والاخرى . . لقد كنت ماشياً في الشارع وفجأة سقطت الفكرة في رآسي كلوح زجاج كبيرما لبث أن تكسر وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل . . قلت لنفسي : (( أوف . . ثم ماذا؟)) وأنت ترى, إنه مجرد سؤال صغير يمكن للمرء ان يطرحه ولو بعد خمس عشرة سنة . . ولكن العجيب هذه المرة أن السؤال كان صلباً وناشفاً وأكاد أقول نهائياً . . اذ انه , فور أن سقط في رأسي , انفتح خندق مظلم طويل بلا نهاية . . .
وقلت لنفسي : (( لا بد ان أكون موجوداً رغم كل شيء . . لقد حاولوا ان يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن . . وبذلوا , يشهد الله , جهداً عجيباً من أجل ذلك . . ولكنني ما أزال موجوداً رغم كل شيء . . )) الا أن السؤال كان ما يزال يعوي : (( ثم ماذا؟ )) هذا النوع من الاسئلة يا سيدي عجيب للغاية , ذلك انه اذا ما أتى لن يكون بوسعه ان يبرح قبل أن يروي ظمأه تماماً!
نعم , ثم ماذا؟ دعني اقول همساً : يبدو ان ليس ثمة (( ثم ماذا )) ابداً .
دعني اقول ذلك (( ثم قولوا عني انني يائس جبان هارب . . قولوا عني حتى إنني خائن ! ليس بوسعي ان اكتم الجواب اكثر . . ان الحقيقة يا سيدي مروعة, وهي تملؤني بغزارة حتى لأحس بأني , ذات يوم ، قد أنفجر من فرط ما عبأتني . . أتسع يا سيدي؟ ليس ثمة ((ثم ماذا)) على الاطلاق . . وتبدو لي حياتي ، حياتنا كلنا ، خطاً مستقيماً يير بهدوء وذلة الن جانب خط قضيتي . . ولكن الخطين متوازيان , ولن يلتقيا
يا سيدي !
إن كنت أنا قد جمعت طوال فترة قاسية شجاعة خارقة لأقرر هذه الحقيقة , فان الشرف كله ليس لي , انا لي شرف القول فقط وانتم تحتفظون بكل شرف التأليف. . ألست ترى أنكم انتم الذين اعددتموني ساعة اثر ساعة ويوماً اثر يوم وعاماً اثر عام لهذه النتيجة ؟
لقد حاولتم تذويبي يا سيدي ! حاولتم ذلك بجهد متواصل لا يكل ولا يمل يا سيدي . هل اكون مغروراً فأقول بأنكم لم تفلحوا؟ بلى ! افلحتم الى حد بعيد وخارق ، الست ترى انكم استطعتم نقلي ، بقدرة قادرة , من انسان الى حالة ؟ انا اذن حالة . . لست اعلى من ذلك قط ، وقد اكون ادنى . . ولانني حالة , لاننا حالة ، فنحن نستوي بشكل مذهل ! انه عمل رائع يا سيدي , عمل رائع جداً رغم انه احتاج الى فترة طويلة ، ولكن يا سيدي ، ان تذويب مليون انسان معاً , ثم جعلهم شيئاً متوحداً ليس عملاً سهلاً، ولذلك ا عتقد انك تسمح له ان احتاج ذلك الوقت الطويل . . لقد افقدتم اولئك المليون صفاتهم الفردية المميزة . . ولستم في حاجة , الآن ، الى تمييز وتصنيف ، انتم الآن امام حالة . . فاذا خطر لكم ان تسموها لصوصية , فانهم لصوص . . خيانة ؟ كلهم ، اذن ، خونة ! فلماذا الارهاق والتعب والنظرات البشرية المعقدة ؟
سيدي . . لا تتعجل على فهمي البطيء, انا اريد ان اقول ايضاً انهم من ناحية اخرى، (( حالة تجارية )) . . انهم ، اولاً، قيمة سياحية ، فكل زائر يجب ان يذهب الى المخيمات , وعلى اللاجئين ان يقفوا بالصف وان يطلوا وجوههم بكل الاسى الممكن , زيادة عن الاصل , فيمر عليهم السائح ويلتقط الصور, ويحزن قليلاً. . ثم يذهب ان بلده ويقول : (( زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل ان ينقرضوا )) ثم انهم , ثانياً. قيمة زعامية , فهم مادة الخطابات الوطنية واللفتات الانسانية والمزايدات الشعبية . . وانت ترى, يا سيدي, لقد اصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يميناً ويساراً!
سيدي ، ليس هناك اي ((ثم)) ! هذه حقيقة مروعة , ولكنها حقيقة على اية حال . . لقد تقولب دوري في الحياة بشكل حاسم . انا , كفرد, مجرد خنزير، وانا , كجماعة ، حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية . . لقد فكرت طويلاً قبل ان اصرح بهذا الاكتشاف ، وانا اعرف بأن المنابر ستمتلىء بمن يقول : هذا خائن جبان متخاذل هارب ، لا بأس , لن ينالني العار اكثر مما نالني , وبعد خمسة عشر عاماً لا بأس ان تكونوا كلكم زعماء الاخلاص ورجال المعركة والابطال الصناديد الذين لا ييأسون ولا يهربون . . .
سيدي! إن مؤسستنا تقدم خدمات اخرى لا يحصيها العد .....
نحن مثلاً اكثر جماعة ملائمة من اجل ان تكون مادة درس للبقية ... الاحوال السياسية مستعصية صعبة؟ اذن , اضرب المخيمات! اسجن بعض اللاجئين ، بل كلهم اذ استطعت ! اعط مواطنيك درساً قاسياً دون ان تؤذيهم .. ولماذا تؤذيهم اذا كان لديك جماعة مخصصة تستطيع ان تجري تجاربك في ساحاتها؟
اريد ان الفت نظرك يا سيدي الى امور كثيرة اخرى, انت تستطيع ان تؤكد ولاء مواطنيك عن طريق الادعاء بأن المتذمرين انما هم بعض الفلسطينيين , وإذا فشل مشروع من مشاريعك فقل ان الفلسطييين سبب ذلك الفشل ، كيف ؟ انه امر لا يحتاج الى تفكر طويل ، قل انهم مروا من هناك مثلاً. . اوانهم رغبوا في المشاركة . . او اي شيء آخر، إذ ما من أحد سينبري لمحاسبتك . . ولماذا ينبري؟ من يملك ، بعد خمسة عشر عاماً، جرأة التطويح بنفسه في القضاء دون هدف ؟
يا سيدي, انت ترى، نحن رحمة احياناً. . انت تستطيع ان تشنق واحداً منا فتربي بجسده الميت الفاً من الناس دون ان تحمل هماً او خوفاً اوتأنيب الضمير. . الا اننا يا سيدي, نقمة في كثيرمن الاحيان ، نحن لصوص, نحن خونة ، نحن بعنا ارضنا للعدو. . ونحن طماعون ، طماعون نريد ان نمتص كل شيء هنا، حتى التراب ..
هذا هو الدور الذي رسم لنا . . وعلينا ان نقوم به شئنا ام ابينا . .
ولكن ، يا سيدي ، هنالك مشكلة بسيطة تؤرقي واشعر ان لا بد لي من قولها . . ان كثيراً من الناس ، اذا ما شعر انه يشغل حيزاً في المكان ,يبدأ بالتساؤل ، (( ثم ماذا ؟)) وابشع ما في الامر انه لو اكتشف بأن ليس له حق ((ثم)) ابداً . . يصاب بشيء يشبه الجنون , فيقول لنفسه بصوت منخفض : : (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها)) ثم ، مع الايام يبدأ بالصراخ : (( اية حياة هذه ! الموت افضل منها)) والصراخ ، يا سيدي عدوى ، فاذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: (( اية حياة هذه ! . الموت افضل منها )) ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيراً فلا بد ان يفكرو بأمر آخر .
سيدي ..
اخشى ان يكون حساؤك قد برد، فاسمح لي ان انصرف ! )) .