ليون تولستوي الروح القلقة أبدعت الملاحم الخالدة

DE$!GNER

بيلساني محترف

إنضم
Apr 4, 2011
المشاركات
2,637
مستوى التفاعل
44
المطرح
بين الأقلام والألوان ولوحات التصميم

032011%5C29032011%5CTHUMB34210.JPG


في بداية القرن التاسع عشر، كانت روسيا تنقسم إلى طبقتين رئيستين: النبلاء، وهم الفئة المميزة من البشر، وعامة الشعب، وهي الطبقة التي تتألف أساساً من الفلاحين، الذين لم يكونوا سوى أرقاء لأسيادهم، إذ هم جزء من الأرض التي ولدوا فيها ولا يستطيعون النزوح عنها إلا بموافقة السيد، وهم يباعون مع الأرض إذا بيعت، ويخضعون لسيدهم في أموالهم، بل وفي نفوسهم!
وفي أوائل القرن إياه، اشتبكت روسيا في حروب عديدة وخطيرة، منها غزو نابليون، وحروب تركيا العثمانية. وقد عملت هذه الحروب على دفع طبقة النبلاء إلى التفكير ملياً في وضع بلدهم ومستقبله. وهكذا بدأت تظهر النزعة السلافية، التي تنادي بوحدة العرق السلافي، الذي ينتمي إليه الروس وشعوب منطقة البلقان، وما لبثت أن ظهرت النزعة المعادية لها، والتي تنادي بالاتجاه نحو الغرب، ،وتقليد أوروبا في كل شيء. وهكذا بدأت الأفكار العصرية الجديدة تطرق باب النبلاء الروس، الذين كانوا يعيشون سابقاً في هدوء وسكون تاريخي. وهذا هو نمط المعيشة التي كان يعيشها الكونت نيقولا تولستوي صاحب الضياع الواسعة في إقليم (تولا) وصاحب القصر الكبير في (ياسنانا بوليانا) وذلك حين جاءه ولده الرابع في 24 آب/أغسطس 1828 فسماه (ليون). وهو الصبي الذي سيكبر فيما بعد وسيسمع باسمه العالم بأسره، والذي سيترك بصمات لا تُمحى في كتاب الأدب العالمي الخالد.
ما إن جاء العام 1836 حتى قرر «الكونت تولستوي» إلحاق أولاده بالمدرسة، بعد أن انتهى عهد تعليمهم بالمنزل. فانتقل بهم إلى موسكو، وكان «ليون» في الثامنة من عمره آنذاك، ولكن القدر كان له بالمرصاد. فقد توفي والده بعد سنة واحدة من إقامتهم في موسكو، وانتقل الأطفال إلى حضن جدتهم. وبعد تسعة أشهر أخرى توفيت الجدة، فتولت عمتهم أمرهم وظل الأطفال في رعايتها إلى خريف 1840 حيث توفيت، وانتقل الأولاد إلى رعاية عمة أخرى، انتقلت بهم - بدورها - إلى بلدة «قازان» حيث تعيش، وتغيّر وضع الأطفال من رخاء العيش إلى الهموم والمصائب المبكرة.

032011%5C29032011%5CTHUMB34211.JPG


في العام 1844 قرر تولستوي أن يصبح دبلوماسياً، وسجّل في جامعة قازان، فقبل طالباً في فئة اللغتين العربية والتركية، إلا أنه غيّر رأيه بعد فترة وجيزة وانتقل إلى كلية الحقوق في الجامعة نفسها، ولكنه ما لبث أن شعر بالملل أيضاً في هذا الفرع. لقد وجد البرنامج الدراسي مضيعة للوقت وباعثاً على الملل. ولعل السبب الحقيقي إنما يعود إلى طبيعة روحه المليئة بالقلق الفكري والأسئلة التي لم تكن المناهج الجامعية قادرة على تقديم أجوبة عليها. كان عليه أن يجد أجوبته بنفسه، وأن يزج بنفسه في خضم الحياة دون تردد. وما إن جاء العام 1847 حتى قدم تولستوي طلب اعتذار عن عدم إكمال الدراسة!
كان نيكولاي نيكولا يفتش تولستوي ضابطاً في الجيش، ولم يكن راضياً عن سلوك شقيقه الأصغر «ليون»، فاقترح عليه اصطحابه إلى القوقاز للالتحاق بالجيش الروسي هناك. ووافق ليون تولستوي على الفكرة بحماس. وبالفعل، سافر الأخوان في عام 1851، وقضى «ليون» في القوقاز ثلاث سنوات هامة للغاية، أنهى خدمته العسكرية في عام 1854 برتبة ملازم. غرق تولستوي في تأملاته الروحية بين أحضان طبيعة القوقاز المدهشة، فكتب في يومياته: «هل من المعقول أن هذا العالم الرائع لا يكفي ليعيش فيه جميع الناس، تحت تلك السماء الواسعة ذات النجوم؟ وهل من المعقول أن يحمل الإنسان في روحه بين أحضان هذه الطبيعة الخلابة شعور الشر والانتقام والهيجان لإبادة من يشبهه؟ كيف لا يستطيع الناس إيجاد السلام والسعادة بين أحضان هذه الطبيعة؟ الحرب، أية ظاهرة غير مفهومة لدى الجنس البشري؟.. هل هي ضرورية ومحقة؟». وبالإضافة إلى تأملاته هذه، كتب تولستوي من وحي تجربة القوقاز قصص «الإغارة» عام 1853 و«قطع الأخشاب» عام 1855 و«التجريد من الرتبة» عام 1856. وروايته الشهيرة «القوزاق» التي كتبها خلال السنوات 1852 -1862. وخلال إقامته في القوقاز نشر تولستوي كتابه القصصي الأول بعنوان «الطفولة» وذلك عام 1852. ولقيت هذه القصة ترحيباً واسعاً من قبل أعلام الأدب الروسي آنذاك، وعلى رأسهم دوستويفسكي وتورجنيف.

032011%5C29032011%5CTHUMB34212.JPG


في تلك السنوات راح اسم ليون تولستوي يسطع أكثر فأكثر في سماء الأدب الروسي الجديد، فقد كتب تورجنيف «أخيراً جاء من يحل محل غوغول» ورأى فيه نيكراسوف «أملاً عظيماً للأدب الروسي». وفي الخمسينيات أضاف تولستوي إلى أعماله السابقة عدة مؤلفات منها «العاصفة الثلجية» وقصة «الفارسان» ورواية «السعادة العائلية». وهي أعمال غاب عنها الطابع الفكري الجاد أو القضايا الكبيرة بالمقارنة مع أعماله السابقة التي بوأته مكاناً رفيعاً في الأدب الروسي، وقوبلت أعماله الجديدة هذه بالبرود والفتور من النقاد. مما دفع كاتبنا للابتعاد عن الأدب لفترة، والتفرغ لتعليم الفلاحين.
والجدير بالذكر أن تولستوي كان قد ناضل لسنوات طويلة من أجل تحرير الفلاحين، وتعليمهم وتحسين معيشتهم. وفي العام 1861 أصدر القيصر مرسوماً بتحرير الفلاحين، فحقق بذلك الفكرة التي كان تولستوي يناضل من أجلها لسنوات طويلة. في هذه الفترة كان تولستوي قد أشرف على العقد الرابع من حياته، ورغم ذلك فإن الاستقرار لم يعرف الطريق إلى روحه بعد، فهو ما زال يعيش وحيداً، ولم يتخذ له شريكة في الحياة بعد. ورغم أنه عرف الحب أكثر من مرة، إلا أنه كان يفر دائماً في اللحظة الأخيرة، كما فعل مع قريبته الكسندرا تولستوي الوصيفة في البلاد، وهي التي ظلت تخلص له الود طوال حياتها. وكان تولستوي يسميها بـ «الجدة» لشدة حرصها عليه واهتمامها براحته!
وفي شهر أيار/مايو من عام 1862 اتخذ ليون تولستوي قراراً حاسماً في حياته، عندما أعلن زواجه من «صوفيا آندرييفنا» ابنه صديقه. وفي اليوم التالي لزواجه كتب في مذكراته: «إنها سعادة لا تصدق، لا يمكن لهذه السعادة أن تنتهي في الحياة». وبالفعل، حقق هذا الزواج الاستقرار أخيراً لهذه الروح المبدعة القلقة. وفي السنة الأولى من زواجه رزق بطفله الأول من أصل ثلاثة عشر طفلاً جاؤوه تباعاً. وأنجز كذلك روايته «القوزاق» التي لاقت إقبالاً كبيراً لا يوازيه سوى الإقبال الذي لاقته أعماله الأولى. عندها بدأ تولستوي يعي أهمية رسالته وضخامتها، وراحت أفكاره تتعمق أكثر فأكثر. وعاد ذهنه إلى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وبالتحديد إلى هجوم نابليون على روسيا في العام 1812 حيث اقتحم أراضيها ووصل إلى عاصمتها موسكو، قبل أن يرتد خائباً مقهوراً، وهو الذي لم يكن قد عرف الهزيمة من قبل. ووجد تولستوي أن أحداً من الكتاب لم يمنح هذه الواقعة الشديدة الأثر في تاريخ روسيا حقها من الاهتمام، وشعر بأنه مسوق بقوة خفية تدفعه لكتابة عمل عظيم خالد، فإذا به يتفرغ خمس سنوات كاملة (1865 - 1869) لإنجاز رائعته الخالدة «الحرب والسلام» التي نهج فيها نهجاً أقرب إلى الملاحم الشعرية التي أبدعها خيال الأقدمين. حتى إن بعض النقاد شبهها بملحمتي الإلياذة والأوذيسة لهوميروس. وقد كان تولستوي واثقاً من نفسه ومما صنعه لدرجة أنه قال هو نفسه عن روايته: «هذا شيء يشبه الإلياذة»!.
ولكن طبيعة الفنان القلقة والمتوترة عاودته من جديد. فنراه عاجزاً عن البدء بعمل جديد بعد أن استهلكت «الحرب والسلام» طاقته وأعصابه كل تلك السنوات. لذلك نرى تولستوي برماً ومتأففاً من كل شيء. فهو تارة يغرق في تشذيب حديقته والعناية بها وبالأرض، وطوراً تعاوده حمى التعليم، فيبدأ بكتابة كتب صغيرة لتعليم الأطفال، ثم يعود لقراءة التاريخ الروسي ويقرر كتابة عمل تاريخي جديد عن حياة (بطرس الأكبر)، القيصر الروسي الذي قام بإدخال النظم والتقاليد إلى روسيا. ولكن تولستوي ما يلبث أن يهمل هذا الموضوع بعد أن انشغل به طيلة سنتين!
وطوال السنوات (1873 - 1877) كان تولستوي مستغرقاً في العمل بجد لإنجاز روايته الخالدة الأخرى (آنا كارنينا). والرواية تتحدث عن فتاة مترفة مليئة بالحياة، تعيش في أرقى الأوساط التي عرفتها روسيا القيصرية، وتتزوج من رجل متقدم في السن ولكنه واسع الثراء ويملك نفوذاً كبيراً، ولهذا فهو ينظر إلى زوجته نظرته إلى المتاع الذي يكمل به مظاهر جاهه وثرائه. ولا تلبث الفتاة أن تكتشف حقيقة وضعها ولكنها لا تستطيع الخلاص، فتقدم على حب شاب من النبلاء، وتجد في هذا الحب تعويضاً عن معاناتها وانتقاماً من زوجها، وتندفع «آنا اكارنينا» في هذا الحب اندفاعاً شديداً حتى تصير مضغة للأفواه، ويشعر العشيق «فرونسكي» بالضيق من محاولة «آنا كارنينا»، السيطرة عليه، ومن شدة غيرتها عليه، فيقرر هجرها! ولا يعود أمام البطلة اليائسة بد من الانتحار، فتلقي بنفسها تحت عجلات قطار عابر!
«ليس لهذه القصة من مثيل، مَنْ من كتابنا يقارن بتولستوي؟ وفي أوروبا من كتب ما يقارن بها؟» وبعد إنجاز ملحمته الجديدة هذه، بدأ بمراجعة نفسه من جديد، واستخراج كوامن ذاته البعيدة الأغوار. وحدث انعطاف عميق وشديد الأثر في نظرته الأخلاقية والجمالية والتاريخية والاجتماعية.
ابتداء من العام 1879 بدأ تولستوي بوضع كتاب سماه (الاعترافات). وحاول فيه السير على خطى المفكر الفرنسي الشهير (جان جاك روسو) الذي وضع كتاباً بالعنوان نفسه. وقد حاول تولستوي في كتابه الجديد البوح بتفاصيل حياته الخاصة والحميمة، لكن نزعته المحافظة قادته إلى الانكفاء في الوقت المناسب، فلم يصل في درجة اعترافاته إلى الحد الذي وصله (روسو) مثلاً، إلا أنه تفوّق عليه في أسلوبه السردي الجميل، وسنجد في هذا الكتاب أيضاً الكثير من التناقضات الفكرية التي عصفت بالكاتب على امتداد سنوات طويلة، والعذاب الروحي الذي رافقها.
وعندما اندلعت ثورة 1905 في روسيا كان موقف تولستوي منها متناقضاً، فهو يبارك التغيير الاجتماعي الذي دعا إليه على الدوام، ولكنه ينبذ العنف والدماء الناتجة عنها، ولهذا كتب تولستوي:
«أنا سعيد بالثورة، ولكنني حزين على أولئك الذين يظنون أنهم يقومون بها ولكنهم يقتلونها».
إلا أنه - ما إن هزمت الثورة - حتى أعلن، بقناعة تامة، أنها ستعود قريباً! فكتب في عام 1908 مقالة بعنوان «لا أستطيع الصمت» شكلت صرخة قوية وشجاعة في وجه البطش القيصري الرهيب، وكان ذلك في الفترة التي بدأ فيها تولستوي يقترب من عامه الثمانين.
وفي عام 1910 حدث صراع عائلي مرير بين تولستوي وزوجته صوفيا حول كتابة وصيته، حيث كانت الزوجة تريد الاحتفاظ بميراث الأرض والعقارات لأسرتها وأولادها، في حين كان تولستوي يريد التبرّع بكل شيء لأتباعه وللدعوة إلى مذهبه في الحياة!! بعدها خرج الكاتب الكبير من بيته غاضباً، مقرراً اللجوء إلى بيوت الفلاحين البسطاء، والتهبت رئتاه في القطار، وتوفي في إحدى المحطات المهجورة، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 1910. وهكذا انطفأت تلك الروح العظيمة المتوهجة التي سطعت في سماء الأدب الإنساني الخالد، والتي دفعت مكسيم غوركي إلى القول:
«فيه شيء ما، يوقظ بداخلي الرغبة المستمرة أن أصرخ بكل إنسان، بالجميع: انظروا! أي إنسان فريد يعيش على هذه الأرض!».
 

ندى القلب

المحاربين القدماء

إنضم
Jul 14, 2009
المشاركات
16,493
مستوى التفاعل
151
رسايل :

كالسجناء نلتقي وعيوننا معلقة على الزمن الهارب _ العائم مثل طائرة ورقية يلهو بها طفل لا مبال

ممتعه سيره هذا الكااتب

اتمنى ان اقرا روايته انا كارنينا


يعطيك الف عاافيه ديزاينر وردة*
 
أعلى